التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مجلة آفاق الأدب ____ تل مكسور ____ الاديب مصطفى الحاج حسين

/// مصطفى الحاج حسين .

                      قصة : تل مكسور .

        مضى على تعيين الأستاذ ( حمدان العمر ) ،أكثر من ثلاث سنوات،معلما وحيدا في قرية ( تل مكسور)
  دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة ، بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في ( تل مكسور )
 فإذا انتقل إلى قريته ،ذهبت مكانته وهيبته، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ،ليعمل في الأرض، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح والديه .

              لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ ( أبو قاسم ) بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة،كما اشتهر بقسوته وبطشه
 وكثيرا ما كان يبتسم في سره ، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .

        وماكان يغريه في البقاء في ( تل مكسور ) ، ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه المزعوم .

           ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ، مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه معلما ًوحيداً ، يستشيره الجميع في كل الأمور ، قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة ، ( من علمني حرفا ، كنت له عبدا ) ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة ( عبد ) ، كل هذا
استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ، بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ، ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ،
وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ،
ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة .

         إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي ( خديجة ) والدة تلميذه ( جمعةالخلف ) أجمل نساء القرية ، الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه 
أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها نفرت من كل المحاولات .

             ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير
  وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها ( جمعة ) ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .

           كان الأستاذ ( حمدان ) يقف على الكرسي ، يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون العقوبة
القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم المسكين .

            واليوم … حدث ما يبرر كل حقد ( حمدان ) على تلميذه ( جمعة ) ، وشاهد من خلال النافذة ، التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان ( جمعة ) بينهم ، اندفع ( حمدان ) إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :

ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.

          خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه (حمدان) بنظره الحاقد صوب (جمعة ):

ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .

           وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :

ـ لست أنا .. يا أستاذ !!

ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .

ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة .

       وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا قدمي ( جمعة) إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا الأرملة .

         تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال،وجميعهم
يسألون :

ـ ماذا فعل ( جمعة ).. ؟ .

            وكان الصغار يتولون الجواب :

ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .

والأستاذ ( حمدان ) منهمك بضرب الصغير ، غير عابىء بصراخه وتوسلاته :

ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .

        وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب
الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه الأحداث ، جاءه صوت ( خديجة ) ، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض :

ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟!.

فزعق ( حمدان ) بوجهها :

ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهكت ؟ .

           اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع
الأنفاس :

سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .

صرخت الأم بانفعال شديد :

ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ،وأية خرقة أخرى …

       زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :

ـ ولد ..؟!! ..لا يعرف قيمة العلم ؟!..هذا غير صحيح
، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين ـ من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..

       اقترب المختار ( أبو قاسم )، يرجوه :

ـ يا أستاذ ( حمدان ) ، هذا ولد .. يجب ألا تؤاخذه ، على هذه الغلطة .

صاح ( حمدان ) :

- حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!… والله سأكتب تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية… سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب … ومن.لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية … أنا لن أخسر شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .

             ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته .. إرباكه .. وصرخ :

ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها … ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .

       نشرالخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت الكلمات على شفاههم ،مرت لحظات منحوته من دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر ( أبو عيشة ) أن يساند ( حمدان ) ، حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من ( خديجة ) ، أرملة ( نايف ) ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .

       تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم ( أبو نواف ) وطبع قبلة على شارب المعلم ، وتشجع ( أبو ممدوح ) ، فعزم على الجميع ، أن يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ …هكذا راح يقسم .

          وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يدحمدان
تقبلها ، وتبللها بدموعها . كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات … مسترحمة ، مستعطفة ، حتى خديجة 
… تهدجت كلماتها من الفزع .. وهي تتمتم :

ـ هذا طفل يا أستاذ … لو كان رجلا …

ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو يزعق بتلذذ :

ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا ..

        انصعقت ( خديجة ) ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت … عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ، المهم الآن … أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير ولدها ( جمعة ) في خطر ، فابتلعت الإهانة ،وضغطت
 على جرحها ، وقالت :

ـ سامحك الله يا أستاذ ( حمدان ) ، لو كنت تعرف أي الرجال ، كان ( أبو جمعة ) ، لما اتهمته بالخيانة .

          أدرك ( حمدان ) نقطة الضعف عند غريمته
فعزم على تمريغ اسم المرحوم :

ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .

      وهنا فقدت ( خديجة ) رشدها ، لم تعد تحتمل
أكثر مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه ( حمدان ) :

ـ اخرس … اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى تقول عن ( أبي جمعة ) جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ، لتعرف من هو ( أبو جمعة ) ، أنت مجرد نذل .. حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .

           واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع ( حمدان ) مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان حاضرا ، من أهالي( تل مكسور ) يد( خديجة ) الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ، بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .

                       مصطفى الحاج حسين 
                                 حلب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجلة آفاق الأدب / بائع الجرائد / الشاعرة شذى البراك

الشاعرة شذى البراك  بائع الجرائد بين الحرب والسلام.. أحمل خطاي المتثاقلة.. أتأبط شره الكوارث.. ودموع الثكالى.. وأبراج الأحلام الوهمية.. في صحفي.. جراح كنصال في خاصرة الزمن.. حيث وطني المعلق بسارية من دماء.. ورياح التطرف غراس اشتهاء يبيع الانتماء في أسواق النخاسة.. وفي سطوري بات إيقاع الحياة سريعا.. يموج بواقع مضطرب..  مهووس  فلم تعد للسلام أجنحة يحلق بها.. وصار يشكو هويته الضائعة.. والفوضى أعتى من أسلحة الدمار الشامل.. والقلوب تقتل بنيران صديقة..

من أنت أبها الطير / الشاعر غازي القاسم

 وقالت :- مِن أينَ أنتَ أيّها الطير ؟  وقلت :- أنا طيرٌ مِن بِلادِ السَلامِ  وَلَمْ يزُرْهَا السَلامُ بَعدْ  أنا مِن تَحت ظِلالِ أشْجارٍ  تَحْتَها تَفَيأَ الأنْبياءُ  لَم تُمْطرٰ السَماءُ هُناكَ بَعد  أنا مِن بِلادٍ تَكْتُبُ التَاريخَ بِالدَّمِ  فيها مات المُسْتحيلُ  تُلوَ المُستحيلِ  أنا مِن بِلادٍ يُحَارِبونَ كَيّ  يَنْتَصِرَ الجُرْحُ عَلَى السِكينِ  أُغْنيتي شَهقَةُ شَهيدٍ  لا ينتسبُ لِلمَوْتِ  يَرْسُمُ في السَماءِ سَحَابَةَ مَطَرٍ  تنبتُ قَمْحَ حَياةْ  أنا طيرٌ أبَدِّيُ التَحليقِ  صُعوداً مِن هَاوِيَةٍ إلى هاَوِيَة  أنا طَيْرٌ لَهُ تَرانِيمٌ  مِن وَقْعِ خُطى الغُزاةِ  وَصَرْخَةِ الخَطَايا  أنا أُغْنِيةُ طـفْلٍ يَرْفَعُ شَارَةَ نَصْرٍ  وَعَلَماً وَحَجَراً  وأنا لَوْعةُ الأُمِ تَشمُ قَميصَ شَهيدِها  وَلَوْعَةُ طِفْلَةٍ تَيَتَّمت عَلَى بَابِ العِيدِ  أنا تَغْريدَةُ  مَوتِ الموتِ في الموتِ  شَهْقةَ حَياةْ  غازي القاسم

مجلة آفاق الأدب _____ على صراط البينات _____ الشاعر شاه ميران

على صراط البينات  رقعت ثياب نعاسي  بخيوط يديكِ  كنت رثاً  مثل وصايا العجائز  اتغير بأستمرار  قايضت جبيناً بشمس الظهيرة  ظننت بأنني خسرت الاف اميال الدفء  و قمح ما بين عقد الحاجبين  مر قبالة فمي  من غير وداع حاصد  حلمت بالجوع كثيراً  حتى اخذتني رياح شعر مسترسل  الى قارات لم تكتشف  انتِ ، بردية ندى متحولة عطراً يتعطر بدجاه ترغمين الكون كسلاً في رأسي  ثم تبعثرين الأوراق قبل ملئها  مس عنقي اشباح اظافرك المبتذلة  و انا مزدحم بآواصر اللاوعي  فعمري الآن  لا يتعدى رقصة تحت المطر  و طفلة خيال تتأرجح  في باحة اشعاري الخلفية  كيف تحتملين خرائب صدري  و معارك الشخير المنهزم  من ميادين الرئة  لست ساكناً حراً  بل على تماس مع  تفعيلات مبسمكِ الضوئي  كرحلة الأنجم  هيت لكِ طوداً  سيغفوا فوق حقول القطن  تاركاً رموز قصيدة مختمرة  حتى يستفيق  قديم انا  مثل غبار يغطي سطح كتب الشعوذة  ساذج الرد  كصخرة جليدية  تهمل العوالق قضيتي...