التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مجلة آفاق الأدب _____ الواقع و الواقعيةالإنتقادية الساخرة عند الأديب مصطفى الحاج حسين ____ بقلم أ. إبراهيم محمد كسار



الأستاذ الشاعر والناقد : إبراهيم محمد كسار .

/// الواقع والواقعية الانتقادية السّاخرة ..

                            قراءة نقدية ..

    في تجربة الأديب القاص مصطفى الحاج حسين .

                لم أعهد في أصدقائي الأدباء ، أو في الكتاب الذين أعرفهم حماساً للأدب يماثل حماسه ، ذلك أنّه – باختصار شديد – ذو إصرار دائب على الأدب والكتابة الإبداعية .

      فقد كتب الشعر ردحاً من حياته ، وكان شعره خالياً من الإيقاع الخارجي ، فهو – من هذه الجهة –قد ينتمي إلى ما يسمى (( قصيدة النثر )) لكنه من حيث التصوير والبناء الشعري قد ينتمي إلى شعر التفعيلة.

          يزخر شعره بالصور المحلّقة ، فهو يملك مخيلة واسعة الأفق ، ويرى أن القصيدة يجب أن تكون مليئة بالصور الجديدة المدهشة لذلك تراه يسعى سعياً حثيثاً إلى المزيد من التصوير الفني .

       أمّا موضوعات شعره فمتنوّعة ، ولكن يغلب عليها موضوعان أساسيان هما : الهم السياسي – الاجتماعي ، والغزل . وقد كتب في الحب نيفاً ومئة قصيدة أطلق عليها أصدقاؤه تسمية (( الندويات )) . وقد جمع أشعاره بين دفتي مخطوط بعنوان (( نوافذ على الجرح )) .

       تحوّل إلى كتابة القصة القصيرة ، فأنجز مجموعة كبيرة من القصص ، تقدم بمجموعة منها تحت عنوان (( الضّحك على اللحى )) إلى مسابقة الدكتورة سعاد الصباح في الكويت ففاز بالجائزة الثانية ، وتقدم بمجموعة أخرى تحت عنوان (( قهقهات الشيطان )) إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، فوافق على طبعها بالتعاون .

     إنّه القاص مصطفى الحاج حسين ، العين الراصدة 
والحدقة الجريئة التي تلج عالمه الداخلي ،كما تتسلل
 إلى عوالم الآخرين دون استئذان ، لكنها تخرج منها بعوالم قصصية ناجحة .

    إنّه القاص الذي لم يغادر – في قصصه – حلب وضواحيها فهو مخلص للمكان مرتبط به ارتباطاً وثيقاً ، يؤمن بأن أية بقعة من الكون تنبض بمئات القصص ، وما على القاص المبدع إلاّ أن يستلّ قلمه ، ويحاكي ما حوله تسجيلاً فنياً مبدعاً .

     إن كل شيء حوله قابل لتحويله إلى قصة قصيرة
 كل حدث مهما كان صغيراً ، وكل شخصية أيضاً يملكان كمّاً قصصياً هائلاً لذا نجد قصصه متحركة في جميع الأبعاد ، متسوبة إلى كل الزوايا ، متنوعة المآكل .

      وإذاً ، فلا شيء — على الإطلاق — لديه عصي على القصة وبالتالي يغدو كل شيء في الحياة فنّياً ، إذا ما تيسّر له فنان يستطيع تطويعه ، وتدجينه في أحد الأجناس الأدبية أو الفنّية .

      قد يقودنا هذا القول إلى أنّ قصص مصطفى الحاج حسين واقعية ، وهذا صحيح تماماً ، لكنها واقعية تمتلك حرية الاختيار ، فهو – على الرغم من إخلاصه للوقائع إلى درجة التسجيلية أحياناً – يتدخل بخياله الفني ، ليضفي على الأحداث ما يتلاءم وفكرة القصة ، أو الرؤيا التي يحبّ أن يطرحها من خلالها ، وهكذا تغدو واقعية مصطفى في قصصه واقعية ذات بعدين :

1 – واقعية المضمون :
فهو لا يكتب قصة من قصصه بمنأى عن أحد المصادر التالية :

       التجارب الذاتية ، تجارب الأهل والأقارب ، تجارب الأصدقاء ، الموروث الشعبي ، أو ما يشتهر من أحداث الواقع المحيط .

     فهو كاتب مفرط الواقعية ، يختار قصصه من الواقع المعيش غالباً ، فتطغى على قصصه سمة التجربة الحياتية الحقيقية ، فكل ما يكتب عنه – بلا استثناء- رآه حقيقة ، وعاش جزءاً منه ، أو سمع عنه نقلاً عن رواة ثقاة ، لذلك نرى تأثير قصصه –في الغالب الأعم – سريعاً ومباشراً ، وهو يعمل على الفكرة أحياناً ، لكنها يجب ألاّ تكون فكرة متخيلة ، فيكتب قصة الفكرة ، ولكن تكون قبساً نموذجياً مما يحدث في الواقع عادة وإن كانت غالبية قصصه قصة حدث . ولنأخذ مثلاً على قصة الفكرة،تلك القصة التي كانت عنوان مجموعته المنشورة
(( قهقهات الشيطان )) حيث نجد (( نوري )) بطل القصة ، وهو غلام بسيط ، يدخل إلى البيت ، فيفاجأ بوفاة أبيه ، ويرى الجميع مجتمعين يبكون ، فلا يستطيع أن يذرف دمعةً واحدةً .

     ويبدأ التفكير بأنه يشعر بالأسى لأنّ أباه مات ، ولكنه – في الوقت نفسه – يسعد لهذا ، ويسمي هذا التفكير وسوسة من الشيطان ، فلا يمكنه إلاّ أن يبتسم رغماً عنه ، ها هو يقول :

(( لقد مات أبي ، ينبغي أن أبكي ،حسدت أمي ومريم
 وزوجة عمي وابنتها ، حسدتهنّ على دموعهنّ ، المرأة دائماً جاهزة للبكاء .. يالسعادتها .. ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة ، لعنت الشيطان الرجيم في سري ، صممت آذاني عن سماع صراخه : – لقد أصبحت حرّاً طليقاً – ابتعد أيها الشيطان القذر ، فأنا أحبّ أبي رغم كلّ شيء ، لقد سامحته .. أسرعت إلى غرفتي ، وعلى الفور بللّت إصبعي بلعابي ، ثمّ دهنت جفني .. )) .

إنّه يتذكر قسوة أبيه عليه ، وأنّه كان السبب في عذاباته فهو قد حرمه من متابعة الدراسة ، وأجبره على العمل . 

وفي محاولة منه لإقناع الشيطان بالحزن على أبيه ، يهرب من الجميع خوفاً من أن يكتشفوا ابتساماته . وفي المقبرة يبث شكواه إلى جده الظالم الذي كان السبب الحقيقي في بناء شخصية أبيه .

         كثرت الشخصيات في هذه القصة ، ولكنها ظلّت جانبية ، بسيطة الحضور ، وقد سيطر السرد على القصة على الرغم من وجودالشخصيات والحوار القصير الذي يدور بينها ، عبر ارتباطها بالبطل ، وكانت الخاتمة قوية ، فثمة دمعةواحدةحقيقية انحدرت من عينيه ،ويحرص نوري على إبقائها ، غير أنّ جنازة أبيه ما تزال بعيدة .

2 – واقعية الشكل :

           مصطفى كاتب غير مولع بالتجديد كثيراً ، فهو — غالباً — ما يسرد قصصه بواقعية حادة ، معتمداً المباشرة لفظاً ومعنى ، واضعاً نصب عينيه قارئه ، فهو كثير الاهتمام به ، لذا يبتعد عن كل ما يبعده عن القارئ ، ولا تكاد أمسية من الفعاليات الثقافية بحلب شارك فيها مصطفى الحاج حسين تخلو من تعلق المتلقين بقصصه ومن تأثيرها المباشر فيهم .

      إنّ القصة التي يكتبها حاج حسين تبقى عالقة في الذهن مستمرة فينا بعد قراءتها، أو سماعها ، ولذلك يعود — في ظني — إلى أمرين ، أولهما الحرارة التي تمتلكها قصصه ، فهو يختار المواضيع الساخنة ، بحيث تظهر حيوية متدفقة ، توحي بطزاجة الحدث وواقعيته وتلامسنا أياً ما كان انتماؤنا أو اتجاهنا الفكري ، وثانيهما بروز جانب النقد الاجتماعي الذي يعتمد على السخرية المرّة غالباً ، وهكذا نراه يكشف زيف علاقاتنا الاجتماعية ويقوم بتشريح دواخلنا ، ونحن نستمع إليه مستمتعين ، ونتابعه لأننا نلمس في قصصه واقعية انتقادية محببة ، تسعى إلى تغيير الظواهر السلبية بثورية مقنعة ، تتسلل إلى النفس ، لتفعل فعلها النقدي الواقعي العميق .

     ويقودنا هذا إلى الحديث عن قدرة مصطفى الحاج حسين على الدخول إلى عوالم النفس الإنسانية ، بحيث يستطيع استكناه الدوافع الداخلية
 فيتتبع خطاها بقدرة فائقة ، إنّه قادر على سبر أعماق الإنسان ببساطة مدهشة ، وبذلك نجد غالبية أبطاله مصابين بعقدة (( مركب النقص )) ، فهم يحاولون جاهدين لتغطية عقدتهم تلك بأساليب وسلوكيات مختلفة ، تبدومضحكة أحياناً ، وهذا ما نجده واضحاً في معظم ققص حاج حسين ، من مثل قصة (( واقتنى تميم نقاده )) حيث نرى شخصية تميم هذا شخصية مأزومة منذ البداية ، فهو شاب مدلل ، غير أنه يشعر بالعجز لرسوبه المتكرر بالجامعة ، فيجرّب التمثيل في المسرح الجامعي ، فيفشل ويغدو أخيراً شاعراً بالمصادفة الساخرة ، وهي مصادفة تعتمد النقد الفكري والفني من قبل القاص ، فالناقد الشاب هو الذي منح تميماً إجازة الشعر ، على الرغم من لجنة التقييم وآرائها ، في المهرجان الشعري الجامعي
 وحيث يصبح بيت تميم مزاراً لكل محرري الجرائد والمجلات من العاصمة ، فإنّ القصة ترصد المال والجاه قيماً عليا في الأدب والفن . 
.
       والقاص مصطفى الحاج حسين يرسم شخصياته
 بعناية ويهتم بعرض جزئيات من حياتهم ، فقد يضطر – أحياناً – إلى العودة نحو الماضي لاستكمال صورتها منه وغالباً ما يرسم الصفات الجسدية والخارجية للشخصية وذلك للوصول إلى قدر أكبر من تحديدها ، وبخاصة تلك الصفات التي تمنح القصة سلاح السخرية الحاد ، في النقد الواقعي ، وتعرية السلبيات فيه .

       إنّ تجربة مصطفى الحاج حسين تجربة غنية فيما يبدو فهو قد أفاد من تجربته الشعرية بحيث نلحظ الشعرية في لغته القصصية ،وكذلك قدرته على التصوير الفني المتقن ، يجسد لنا الشخصيات والأحداث تجسيداً حيّاً ومباشراً ، فنكاد نلمسها بأيدينا ، وهو — في سبيل ذلك — يصر على جعل المتلقي يلهث وراء الحدث ،عبر حشد الكثير من التراكيب والألفاظ والصفات ، معتمداً عنصر المبالغة في عمليةالتشويق ، لشد المتلقي الذي يضطر — بدافع الفضول على الأقل — لمتابعة القصة ، وكثيراً ما تنجح هذه المحاولة ، فتترك آثارها الإيجابية الباقية في المتلقين .

     وربما كان من الضروري الإشارة إلى أنّ أجواء قصص الحاج حسين هي أجواء متنوعة متباينة ، فهو يمتح من الذاكرة أحياناً ، فيكتب قصصاً تعود إلى تجارب قديمة ، تصور جانباً هاماً من مدينة ( الباب )مدينته الأم،فيكشف من خلالها الواقع المتردي ، ويصور مافيها من أمراض اجتماعية وأخلاقية وفكرية ، وقد يتجه إلى عوالم المثقفين
 والأدباء منهم بخاصة فيسجل ما يعتمل في هذه العوالم من زيف وخداع ، ويعري شخصيات هذا العالم ، بجرأة تصل حدّ الفضيحة ،في بعض الأحيان وهذا ما جعلني أطلق عليه ذات يوم صفة ( الكاتب الفضائحي ) ، وكان ذلك في النادي العربي الفلسطيني
 في أمسية أقيمت احتفالاً بالأدباء الذين فازوا بمسابقة دار سعاد الصباح من حلب وكان منهم ، وكذلك في نادي التمثيل العربي للأدب والفنون .

        إنّه كاتب لا بتحرّج من رصد سلوكيات الأدباء وأحوالهم الداخلية ، ويبدو كل ذلك نابعاً من تجربة حقيقية له ، إذ عايش ، ويعايش واقع الأدباء وتربطه بمعظمهم صداقات كثيرة .

            فقد كتب الكثير من القصص ، كان أبطالها شعراء وقصاصين ونقاداً ، من مثل ( واقتنى تمتوم نقاده – إجراءات – الضحك على اللحى – القصيدة الميتة – المبدع ذو الضفتين .. ) .

   ولنأخذ الأخيرة مثالاً على ذلك ، حيث نرى شخصية
 أدبية ومثقفة ، أو هكذا يدعي صاحبها ، متخمة بجنون العظمة ،وهذا —فيما يبدو —معادل موضوعي
 للشعور بالنقص .

 وتقوم القصة بفضح هذه الشخصية من كل الجوانب
  ورصد تحركاتها النفسية من خلال كلامها ، ويأتي السرد عن طريق البطل ( الراوي بصيغة الأنا ) .

             والقصة تسجل انتقاداً صارخاً لكل أولئك الذين يستسهلون العملية الإبداعية ، وأيضاً تنتقد الثقافة وأوضاعها الراهنة ابتداء من النشر وانتهاء بالإبداع الحقيقي ، وكذلك تنتقد الدارسين الجامعيين
 وغيرهم من النقاد والمثقفين .

     ويبدو التأزم في القصة واضحاً منذ البداية ، ويأتي التسلسل الزمني في سبيل عرض الحالة والاستغراق فيها أكثر ، فالبطل – هو ربّ الشعر كما يقول – يقرر كتابة القصة القصيرة ، مفتخراً بكل تجاربه على جميع الأصعدة ، ويبدو أنّه مضطر إلى الكتابة القصصية ، فهو وصل إلى قناعة مفادها أن القصة أكثر استيعاباً لحوادث الحياة وهمومها من الشعر ، وكذلك فإن زوجته تحب القصة ، وهو الآن يميل إليها . وقد برزت في هذه القصة شخصيّة واحدة ، وزمن واحد ، وإن كان ثمة أزمان ماضية ذكرت من خلال السرد ، وجاءت الإنارة داخلية ، فلا غموض ولا إبهام في القصة .

   وكذلك يمتح القاص الحاج حسين من قاع المجتمع
 الغائص في مستنقع العادات والتقاليد البالية ، فيكشف لنا أنماطاً من السلوكيات والتصرفات في هذا الواقع ، يعرض بأخلاقيات هذا المجتمع وقواعده ، معرياً زيف بعض شخصياته ، من مثل قصة (( دستور من خاطره )) التي ترصد شخصية مدّع شيخ طريقة
 وهو يظهر التقوى ويدعي الإيمان ولكنه – في الحقيقة – بؤرة للرذائل ، وأصناف الفجور .

          وقد يعتمد القاص مصطفى الحاج حسين على الموروث الشعبي في بناء قصته ، مفيداً من حادثة شعبية صغيرة يقوم برسمها في قصة فنية متكاملة ، كما في قصة (( باثور الشاويش )) وأيضاً في قصة (( تل مكسور )) ، وتعد هذه الأخيرة من أجمل قصصه ، فهي – وإن كانت مبنية على واقعة صغيرة ، فحدثت في إحدى القرى التابعة لمدينة حلب – إلاٌ أنه استطاع – من خلالها – تناول واقع القرية ، وما فيها من جهل وتخلف وخوف ، وبخاصة أمام معلم المدرسة المتعلم ، وهو معلم وحيد ، ينفش ريشه كالطاووس ، ويخدع أهل القرية مدّعياً بأنّه مسنود من العاصمة، ويتخذ من التهديد بتقاريره السياسية سلاحاً له أمام الأهالي ،الذي يخضعون له في النهاية ، بما فيهم المختار ، ولا يملكون حياله أي فعل ، وتتأزم القصة ، فتكون الذروة عندما يشاهد المعلم تلاميذه يلعبون بكرة صنعوها من الخرق يهجم عليهم ، فيكتشف أنّ علم المدرسة قد حشر أيضاً في الكرة الخرقية ، وتبدأ المأساة فهو لا يرضى بمثل هذا الفعل، وتتنامى القصة بأحداثها لتصل إلى المواجهة الصارخة بين معلم الابتدائي وبين خديجة زوجة الشهيد ، وابنها جمعة الخلف تلميذ المدرسة ، حيث يتهمه المعلم لأن الأخير يرغب بأمه التي تأبّت عليه كثيراً ، ويبدأ بضربه، وتجتمع القرية ،وتكث التوسلات
  ويتدخل المختار ولكن المعلم لا يرضى ، ويهدد ويزبد بأنه سيكتب تقريراً للسلطات الأمنية ، وسيسجن هذا الخائن ،وتقف خديجة الأم بين الجمع
  وبخبث يجرها المعلم للحديث والاسترحام ، حيث يبدأ بالتهجم على زوحها ، متهماً إياه بالخيانة لأنه والد جمعة ، وهنا تنفجر خديجة فزوجها مات شهيداً ، ولا تقبل مثل هذه الإهانة ، فتحقر المعلم ، وتهجم عليه لتضربه ، وتأتي النهاية لتشير بطرف خفي إلى استشراء الخوف ، وانتشار الجهل الذي يجعل الجميع يقفون مكتوفي الأيدي ، يدفعون ضريبة جهلهم وخوفهم وتكون الخاتمة القوية التي تعد من أجمل خواتيم قصص الحاج حسين حيث يوقف اللحظة الزمنية ويد خديجة مرتفعة للأعلى قبل أن تنزل على خد المعلم ، وكأنها ترتفع بدلاً من علم البلاد .

         إنها قصة ناجحة قصصياً وفنّياً ، تمتاز بالحرارة
 والصدق،وحركاتها المكانية والزمانية تندغمان ليضيع
 الوصف والسرد في خضم الأحداث .

          وكثيراً ما نرى شخصيات قصصه نموذجية ، أو بتعبير أدق ، يصورها القاص ويرسم أبعادها لتغدو نموذجية ، ولا نعني –هنا – الحكم القيمي عليها ، فقد تكون سلبية أو إيجابية . وربما كان من الضروري أن نشير إلى أنّ معظم شخصياته هم من الشباب الذين يعيشون أزماتهم الواقعية والإجتماعية ، وفي أحيان أخرى أزماتهم العاطفية والفكرية ،ولا شك أن ذلك نابع من كون القاص شاباً حتى الآن طبعاً .

         وها هي قصة (( الإنزلاق )) تبدأ بوصف حافلة مكتظة بركابها ، وتتجه العدسة نحو البطل المثقف ، مدرس الفلسفة وعلم النفس محشوراً بين الجموع ، إنّه فقير يعيل أمه وأخواته العوانس ، مكبوت لا يقدر على الزواج ، يقف وراء شقراء في الحافلة المزدحمة ، وتبدأ هواجس الكبت والأخلاق بالصراع في رأسه وعبر المونولوج الداخلي يكشف القاص بطله وهو يؤكد لنفسه بقوله:
(( سقط القناع … إنّي بكل بساطة أنقسم إلى اثنين ، مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق .. وحيوان شهواني )) ويسقط في خضم الصراع يدفعه كبته الجنسي ، ولكنه يكتشف أنّ هذه الفتاة إحدى طالباته .

       ولا تغيب المرأة عن قصص الحاج حسين ، فهي موجودة في كل قصة تقريباً ولكن ثمة علاقة مشوهة – أحياناً – بين تلك المرأة من جهة ، وبين الرجل من جهة أخرى إذ غالباً ما تظهر العلاقة غير سوية بينهما ، ولا نقصد علاقة الحب فقط ، بل المرأة أماً وزوجة وابنة وحبيبة . وتظهر المرأة لديه أحياناً أخرى قوية فعالة ، وصاحبة موقف حقيقي، من مثل قصة ( شرف العائلة ) و (( تل مكسور )) .

           وكذلك لا يغيب الوطن ولا الأرض عن قصصه ، حيث نجدهما كثيراً ،وبخاصة في قصة ( شرف العائلة ) وذلك عبر رمزية تشف عن المغزى من ورائها فهي – فيما يبدو – قصة فلسطين الجريحة ، ويبدو الأعمام الكثيرون ، وهم في القصة رمز للدول العربية ،غير مبالين إلاّ بأنفسهم ومصالحهم
  وهم يعرضون على ابن عمهم / الأب في القصة ، أن يقوم ابنه بقتل الفاجرة ، التي خرجت على قواعد العائلة وشرفها ، فهم يريدون غسل العار ، ولكن ليس بأيديهم أو أيدي أبنائهم ودون أية خسائر، وكذلك في قصة( تل مكسور ) التي تشي عن رمزها بوضوح تام ، حين ترتفع يد زوجة الشهيد في وجه المعلم مثل علم البلاد خفاقة مشرقة .

      وإذا كان لا بد من الإشارة – في،النهاية-إلى بعض الملحوظات الفنية ، فإنني أشير إلى أن قاصنا يعتمد على السرد كثيراً ، وهو ما يسوقه إلى الاستطراد ، الذي يوسع من حدقة القصة القصيرة، أو يشغلها بحوادث جانبيةوسخصيات إضافية .

    هذا مع الإشارة إلى أنّ القاص يجيد عملية القص في النسق الحكائي ، ولكنه يتدخل – أحياناً – في صلب القصة ، فيعلّق ، أو يضيف عبارات توضيحية لا داعي لها .كما أننا نلمس،خطابية ومباشرة في عبارات
 قصصه ومفرداتها ، ولربما تقوده إليها رغبته العارمة بالمبالغة والإثارة ، ولكنه يستطيع — بما يملك من قدرة على الحبكة ونسج خيوطها الفنية — إذكاء حدّة الصراع بين الشخصيات ، ورسم عدة عقد في القصة الواحدة ، أو أكثر من ذروة فيها ، وهذا يؤدي إلى تأثيرها في المتلقي وربطها به ربطاً حميمياً عبر نمو عنصر التشويق والإثارة .

    كما يمكن الإشارة إلى نمطية اللغة القصصية، هذا مع التنبيه إلى نجاح لغة الحوار في قصصه غالباً ، حيث نراها مناسبة للشخصيات ، تميل إلى الحديث العادي ، دون اللجوء إلى عامية مغرقة ، أو فصيحة معقدة .

     وأخيراً يمكن القول إنّ تجربة القاص مصطفى الحاج حسين تجربة غنية و واعدة حقاً ، تنبئ عن خير كثير وعطاء فني متميز ، فيما إذا تابع معاناة الأدب حياة وقراءة وكتابة . ولا أجد ما يلخص ويصور شخصية قاصنا إلاّ قول الشاعر أبي الطيب المتنبي حين قال :

وإذا كانت النفوس كباراً
                                   تعبت في مرادها الأجسام .

                 
                            إبراهيم محمد كسار
                                      حلب ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجلة آفاق الأدب / بائع الجرائد / الشاعرة شذى البراك

الشاعرة شذى البراك  بائع الجرائد بين الحرب والسلام.. أحمل خطاي المتثاقلة.. أتأبط شره الكوارث.. ودموع الثكالى.. وأبراج الأحلام الوهمية.. في صحفي.. جراح كنصال في خاصرة الزمن.. حيث وطني المعلق بسارية من دماء.. ورياح التطرف غراس اشتهاء يبيع الانتماء في أسواق النخاسة.. وفي سطوري بات إيقاع الحياة سريعا.. يموج بواقع مضطرب..  مهووس  فلم تعد للسلام أجنحة يحلق بها.. وصار يشكو هويته الضائعة.. والفوضى أعتى من أسلحة الدمار الشامل.. والقلوب تقتل بنيران صديقة..

من أنت أبها الطير / الشاعر غازي القاسم

 وقالت :- مِن أينَ أنتَ أيّها الطير ؟  وقلت :- أنا طيرٌ مِن بِلادِ السَلامِ  وَلَمْ يزُرْهَا السَلامُ بَعدْ  أنا مِن تَحت ظِلالِ أشْجارٍ  تَحْتَها تَفَيأَ الأنْبياءُ  لَم تُمْطرٰ السَماءُ هُناكَ بَعد  أنا مِن بِلادٍ تَكْتُبُ التَاريخَ بِالدَّمِ  فيها مات المُسْتحيلُ  تُلوَ المُستحيلِ  أنا مِن بِلادٍ يُحَارِبونَ كَيّ  يَنْتَصِرَ الجُرْحُ عَلَى السِكينِ  أُغْنيتي شَهقَةُ شَهيدٍ  لا ينتسبُ لِلمَوْتِ  يَرْسُمُ في السَماءِ سَحَابَةَ مَطَرٍ  تنبتُ قَمْحَ حَياةْ  أنا طيرٌ أبَدِّيُ التَحليقِ  صُعوداً مِن هَاوِيَةٍ إلى هاَوِيَة  أنا طَيْرٌ لَهُ تَرانِيمٌ  مِن وَقْعِ خُطى الغُزاةِ  وَصَرْخَةِ الخَطَايا  أنا أُغْنِيةُ طـفْلٍ يَرْفَعُ شَارَةَ نَصْرٍ  وَعَلَماً وَحَجَراً  وأنا لَوْعةُ الأُمِ تَشمُ قَميصَ شَهيدِها  وَلَوْعَةُ طِفْلَةٍ تَيَتَّمت عَلَى بَابِ العِيدِ  أنا تَغْريدَةُ  مَوتِ الموتِ في الموتِ  شَهْقةَ حَياةْ  غازي القاسم

مجلة آفاق الأدب _____ على صراط البينات _____ الشاعر شاه ميران

على صراط البينات  رقعت ثياب نعاسي  بخيوط يديكِ  كنت رثاً  مثل وصايا العجائز  اتغير بأستمرار  قايضت جبيناً بشمس الظهيرة  ظننت بأنني خسرت الاف اميال الدفء  و قمح ما بين عقد الحاجبين  مر قبالة فمي  من غير وداع حاصد  حلمت بالجوع كثيراً  حتى اخذتني رياح شعر مسترسل  الى قارات لم تكتشف  انتِ ، بردية ندى متحولة عطراً يتعطر بدجاه ترغمين الكون كسلاً في رأسي  ثم تبعثرين الأوراق قبل ملئها  مس عنقي اشباح اظافرك المبتذلة  و انا مزدحم بآواصر اللاوعي  فعمري الآن  لا يتعدى رقصة تحت المطر  و طفلة خيال تتأرجح  في باحة اشعاري الخلفية  كيف تحتملين خرائب صدري  و معارك الشخير المنهزم  من ميادين الرئة  لست ساكناً حراً  بل على تماس مع  تفعيلات مبسمكِ الضوئي  كرحلة الأنجم  هيت لكِ طوداً  سيغفوا فوق حقول القطن  تاركاً رموز قصيدة مختمرة  حتى يستفيق  قديم انا  مثل غبار يغطي سطح كتب الشعوذة  ساذج الرد  كصخرة جليدية  تهمل العوالق قضيتي...