وقائع رواية (دمه) لمحمد الأحمد
رؤية: د. سمير الخليل
وقائع رواية (دَمُهُ) للروائي (محمد الأحمد) مأخوذة عن واقعة تأريخية تناولتها بعض كتب التأريخ العربية- الإسلامية القديمة، والتي تعد مصادر ثرة لقصص مثيرة، وقد حاول المؤلف فرش هذه الوقائع وفق منظور ثقافي يفضح محاكم التفتيش العقلية التي تعقد جلساتها لإدانة الفكر الحر والمفكرين ومدارس التأويل التي تعددت آنذاك وكثرت مواقعها الثقافية، وفي الخط الموازي يتابع المؤلف سيرة والي العراق الذي تسلم سدة الولاية من بعد الحجاج بن يوسف الثقفي بقوة السيف (ومن لا يعرف أن الولاية لحامل السيف) (ص108).
تتكون الرواية من ثمانية فصول مبنية حول نواة حادثة ليلة عيد الأضحى ذبح (الجعد بن درهم) على يد والي العراق (خالد القسري) كقربان تعبدي للسلطة الغاشمة التي تخاف من (العقل الحر) و(المثقف المجاهر برأيه)، وكل ذلك يمر من أمام خلفية عصر خلافة (هشام بن عبد الملك) الأموي.
الرواية اعتمدت الاختزال والفصول القصيرة والقفزات السردية والتداخلات النصية التناصية لغرض تسهيل فهم الأسرار التي ألمّت بتلك الليلة الدموية، وقد كان الراوي قريباً جداً من الأحداث ومشاركاً فيها، فهو أخو (الجعد). بعد أن شهد إعدام أخيه على منبر مسجد الكوفة أصابه الرعب وهرب إلى (نيسابور)، هناك تنكر واشتغل حكاءً يجوب الطرقات والبلدان على حمار، ولأنه خائف فقد أخفى اسمه وغيّر في شكله ومظهره، وكان معظم الحوار الداخلي والخارجي والذي يأتي على شكل همس موجه إلى حماره، فالمسرود له في الرواية هو (الحمار) بدون منازع: (كنت أحكي كل ما يجول بخاطري إلى حماري المسكين، وكان يجيد الإصغاء اليّ، كم تحمل منّي ، في الكوفة تعودت صحبته وأنا أحمل عليه الأوراق المصنوعة من البردي لأنسخ عليها ما يطلب مني، كنتُ أعاني فراغ الصديق الحميد الذي أحدثه عن هزائمي مع الأيام، ولكني وجدت الحمار بديلاً، الكوفة علمتني حرية الكلام ، فكنت أحكي لحماري كل شيء من الأفكار الجديدة، والاستنتاجات التي تفيض من عقلي) (ص114)، وكان اختيار الحمار كمسرود له ثقافة تدل على مدى الخوف الذي كان يعصف بالسارد وبكل ما يحيط به من مكان وزمان وبشر.
ولأننا إزاء رواية تأريخية فإن محاولة المؤلف إعادة إحياء المعنى الذي يكتنف الوقائع وخطاباتها هي محاولة إعادة بناء الماضي في أمانة تقريبية، لكن هذا الإدعاء هو مجرد زيف لأن الراوي (وهو هنا الروائي) هو مجرد متتبع لأطياف المعنى وجامع لشظايا وألغاز الخطابات، وتكمن أهميته وقيمته في ممارساته التخييلية بالذات أي في ممارسته لمهنته ومواجهته لاستنطاق الحقائق في ما وراء إرادة الحقيقة الواحدة وادعاءات القبض على المعنى المطلق.
لا يتعامل الروائي مع أصل يسهل القبض عليه أو حصره وتحديده، وإنما يتفقد آثار الفقدان والضياع ونثار الأفول والتبعثر، فلا يمكنه إعادة انتاج الماضي وتركيب ألغازه وتفكيك لغاته والانصات إلى همساته سوى في إطار قراءة الحاضر الذي يمثل المخزون المباشر للزمن المتوقف في لحظة الكتابة والتدوين، ولأن الزمن المعلّق في حرفية الخطاب هو في حدّ ذاته (حاضر آفل) كانت سبباً في وجوده وانتاجه جملة السلوكيات والتصورات والوضعيات التي لها قصدية معينة، المعنى التأريخي الممكن رصده في فضاءات الكتابة الروائية هو نتاج هذه الاستعمالات والعمليات التي انتجت التأريخ وصنعت الحدث، ويأتي الروائي ليشتغل على (شبه واقع) في مقبرة الوثائق والحطامات ليعيد انتاج المعنى الذي توقف بأفول حاضره وزوال السلوكيات والوقائع التي كانت سبباً في تشكيله.
الرواية التأريخية لها وظيفة إبداع الأطر الدلالية التي تنظم مساحة النص وتمنحه آليات اشتغاله على موضوعاته، ليست الرواية التأريخية (غائبة) الممارسة لها وظيفة التجميد والتثبيت أو المحطة النهائية التي تتوقف عندها العملية التأريخية وإنما تعيد توزيع الوحدات عبر النص وبناء النماذج والأشكال، لأنه ثمة معطيات جديدة ينبغي إدراجها وحقائق مطموسة يتم إحياؤها لتصبح الكتابة عملية مواكبة وتجديد مستمر، فهي لا تحيي الماضي سوى لتعيد حجبه أو دفنه في النص، فهي (تحفة) تأريخية في التعبير عن الغائب والغريب ولكنها تتحوّل إلى (متحف) الموضوعات التأريخية بتجميدها وقولبتها، إنها قوانين الحاضر في الحكم على وقائع الماضي وحجزه في حبائك النص وسجون الوثيقة .
بهذا المعنى، الكتابة التأريخية هي (عملية سردية) تأخذ في الحسبان الزمن والذاكرة واللغة والبلاغة والسرد فضلاً عن كونها خطاباً علمياً ومعرفياً يلجأ إلى الأصول المفقودة لاستخراجها ونفض الغبار عنها وربطها بعلاقة وطيدة بالموت أو الغياب، وهي مواضيع عالجها (محمد الأحمد) في روايته هذه بتعثر وكأنه تعامل معها كأطياف وآثار محفوظة بقوالب لغوية لا تستنفذ محتوى ما تريد قوله ووصفه، ولما عجزت عن إدراكه والإحاطة به فإنها استحضرته في شكل حضور وهمي مختصر ومبتسر ومخيب لأفق توقع القارئ الدنيوي (= المدني).
سمير الخليل
رؤية: د. سمير الخليل
وقائع رواية (دَمُهُ) للروائي (محمد الأحمد) مأخوذة عن واقعة تأريخية تناولتها بعض كتب التأريخ العربية- الإسلامية القديمة، والتي تعد مصادر ثرة لقصص مثيرة، وقد حاول المؤلف فرش هذه الوقائع وفق منظور ثقافي يفضح محاكم التفتيش العقلية التي تعقد جلساتها لإدانة الفكر الحر والمفكرين ومدارس التأويل التي تعددت آنذاك وكثرت مواقعها الثقافية، وفي الخط الموازي يتابع المؤلف سيرة والي العراق الذي تسلم سدة الولاية من بعد الحجاج بن يوسف الثقفي بقوة السيف (ومن لا يعرف أن الولاية لحامل السيف) (ص108).
تتكون الرواية من ثمانية فصول مبنية حول نواة حادثة ليلة عيد الأضحى ذبح (الجعد بن درهم) على يد والي العراق (خالد القسري) كقربان تعبدي للسلطة الغاشمة التي تخاف من (العقل الحر) و(المثقف المجاهر برأيه)، وكل ذلك يمر من أمام خلفية عصر خلافة (هشام بن عبد الملك) الأموي.
الرواية اعتمدت الاختزال والفصول القصيرة والقفزات السردية والتداخلات النصية التناصية لغرض تسهيل فهم الأسرار التي ألمّت بتلك الليلة الدموية، وقد كان الراوي قريباً جداً من الأحداث ومشاركاً فيها، فهو أخو (الجعد). بعد أن شهد إعدام أخيه على منبر مسجد الكوفة أصابه الرعب وهرب إلى (نيسابور)، هناك تنكر واشتغل حكاءً يجوب الطرقات والبلدان على حمار، ولأنه خائف فقد أخفى اسمه وغيّر في شكله ومظهره، وكان معظم الحوار الداخلي والخارجي والذي يأتي على شكل همس موجه إلى حماره، فالمسرود له في الرواية هو (الحمار) بدون منازع: (كنت أحكي كل ما يجول بخاطري إلى حماري المسكين، وكان يجيد الإصغاء اليّ، كم تحمل منّي ، في الكوفة تعودت صحبته وأنا أحمل عليه الأوراق المصنوعة من البردي لأنسخ عليها ما يطلب مني، كنتُ أعاني فراغ الصديق الحميد الذي أحدثه عن هزائمي مع الأيام، ولكني وجدت الحمار بديلاً، الكوفة علمتني حرية الكلام ، فكنت أحكي لحماري كل شيء من الأفكار الجديدة، والاستنتاجات التي تفيض من عقلي) (ص114)، وكان اختيار الحمار كمسرود له ثقافة تدل على مدى الخوف الذي كان يعصف بالسارد وبكل ما يحيط به من مكان وزمان وبشر.
ولأننا إزاء رواية تأريخية فإن محاولة المؤلف إعادة إحياء المعنى الذي يكتنف الوقائع وخطاباتها هي محاولة إعادة بناء الماضي في أمانة تقريبية، لكن هذا الإدعاء هو مجرد زيف لأن الراوي (وهو هنا الروائي) هو مجرد متتبع لأطياف المعنى وجامع لشظايا وألغاز الخطابات، وتكمن أهميته وقيمته في ممارساته التخييلية بالذات أي في ممارسته لمهنته ومواجهته لاستنطاق الحقائق في ما وراء إرادة الحقيقة الواحدة وادعاءات القبض على المعنى المطلق.
لا يتعامل الروائي مع أصل يسهل القبض عليه أو حصره وتحديده، وإنما يتفقد آثار الفقدان والضياع ونثار الأفول والتبعثر، فلا يمكنه إعادة انتاج الماضي وتركيب ألغازه وتفكيك لغاته والانصات إلى همساته سوى في إطار قراءة الحاضر الذي يمثل المخزون المباشر للزمن المتوقف في لحظة الكتابة والتدوين، ولأن الزمن المعلّق في حرفية الخطاب هو في حدّ ذاته (حاضر آفل) كانت سبباً في وجوده وانتاجه جملة السلوكيات والتصورات والوضعيات التي لها قصدية معينة، المعنى التأريخي الممكن رصده في فضاءات الكتابة الروائية هو نتاج هذه الاستعمالات والعمليات التي انتجت التأريخ وصنعت الحدث، ويأتي الروائي ليشتغل على (شبه واقع) في مقبرة الوثائق والحطامات ليعيد انتاج المعنى الذي توقف بأفول حاضره وزوال السلوكيات والوقائع التي كانت سبباً في تشكيله.
الرواية التأريخية لها وظيفة إبداع الأطر الدلالية التي تنظم مساحة النص وتمنحه آليات اشتغاله على موضوعاته، ليست الرواية التأريخية (غائبة) الممارسة لها وظيفة التجميد والتثبيت أو المحطة النهائية التي تتوقف عندها العملية التأريخية وإنما تعيد توزيع الوحدات عبر النص وبناء النماذج والأشكال، لأنه ثمة معطيات جديدة ينبغي إدراجها وحقائق مطموسة يتم إحياؤها لتصبح الكتابة عملية مواكبة وتجديد مستمر، فهي لا تحيي الماضي سوى لتعيد حجبه أو دفنه في النص، فهي (تحفة) تأريخية في التعبير عن الغائب والغريب ولكنها تتحوّل إلى (متحف) الموضوعات التأريخية بتجميدها وقولبتها، إنها قوانين الحاضر في الحكم على وقائع الماضي وحجزه في حبائك النص وسجون الوثيقة .
بهذا المعنى، الكتابة التأريخية هي (عملية سردية) تأخذ في الحسبان الزمن والذاكرة واللغة والبلاغة والسرد فضلاً عن كونها خطاباً علمياً ومعرفياً يلجأ إلى الأصول المفقودة لاستخراجها ونفض الغبار عنها وربطها بعلاقة وطيدة بالموت أو الغياب، وهي مواضيع عالجها (محمد الأحمد) في روايته هذه بتعثر وكأنه تعامل معها كأطياف وآثار محفوظة بقوالب لغوية لا تستنفذ محتوى ما تريد قوله ووصفه، ولما عجزت عن إدراكه والإحاطة به فإنها استحضرته في شكل حضور وهمي مختصر ومبتسر ومخيب لأفق توقع القارئ الدنيوي (= المدني).
سمير الخليل
تعليقات
إرسال تعليق