الأديب صاحب ساجت
قراءةٌ بسيطةٌ..
(فَلسفةُ الموتِ في نَصٍّ أَدبيٍّ!)
المقدَّمَةُ...
أشخاصٌ وَقفوا وَحيدينَ في لحظاتِ مَوتِهم، ليسَ معهُم إلَّا السِّلطَةُ الإلاهيةُ، الّتي دَفعتهُم إلـىٰ قرارِ عَدمِ التَّخلي عنْ إيمانِهم بإنَّ الحياةَ هي غايَةُ خَلْقِهم
وَ وجودِهم!
وَ يُعدُّ شرعًا إزهاقُ النَّفسِ طوعًا، هَدمُ بنيانِ الإنسانِ الذي جعلَهُ اللهُ سبحانهُ لتعميرِ الأرضِ وَ للعبادةِ.
بَيْدَ أنَّ الأرضَ قَلبَتْ نَوامِيسُ الكَونِ
وَ النَّاسُ نيامٌ!.
نوامِيسٌ لا تَعدُو أنْ تكونَ:-
ــ تعميرَها وَ اصلاحَها!
ــ التّسامحَ وَ التَّصالحَ معَ الذاتِ!
ــ القناعةَ وَ الرِّضا معَ سَعي وَ عناءٍ!
ــ الوَفاءَ وَ الإخلاصَ لها..
فَحَسبْ!
وَ هو لَعمري أمرٌ نسبيٌّ، لا يمكنُ البَتُّ فيهِ، الآنَ أو بعدَ حينٍ.
فَبلحظةٍ مجنونةٍ، هاربةٍ منَ الزَّمنٍ تغيَّرَ كلُّ شيءٍ، انفلتَتْ وَ خَرَّبَتِ النظامَ وَ الاستقرارَ وَ الطمأنينةَ، بلْ أَوْدَتْ بالحياةِ وَ أُزْهِقَتْ جَرَّاءَ ذلكَ أنفُسٌ، بِمجردِ هَزَّةٍ لا يُدركُ هَولَها إلّا مَنْ عاشَها، وَ تذوَّقَ طعمَ موتٍ زُوؤامٍ وَ هو يَلفظُ آخرَ أنفاسِهِ!
اِلْتِفَاتَةٌ كَريمَةٌ:-
الوفاةُ.. قَبضُ الشيءِ أو أخذهُ كاملًا دونَ نقصانٍ. فَتُوُفيَ فلانٌ كأنَّهُ قُبِضتْ نفسُهُ كاملةً.
أمَّا الموتُ.. فهو مفارقَةُ الحياةِ وَ ليسَ القبض، وَ تُستَعملُ لفظةُ " مَوت " اِستعمالاتٍ مَجازيةً، فَنقولُ لِمَنْ نامَ مستغرقًا في نومِهِ، ماتَ فلانٌ.. إذا
نامَ نومًا عميقًا.
و في القرآنِ الكريمِ...
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إلى أَجَلٍ مُسَمًّىٰ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (٤٢ - الزمر)
فاللّٰهُ سبحانهُ يَتوفىٰ الأنفسَ حينَ موتِها وَ يتوفَّىٰ التي لمْ تَمُتْ في منامِها، وَ تتعارفُ أنفسُ الأمواتِ إذا ماتوا،
وَ أنفسُ الأحياءِ إذا ناموا، إلـىٰ ما شاءَ
اللهُ تعالـىٰ، فيِمسٍكُ التي قَضَىٰ عليها الموتَ، وَ يَرسلُ أنفسَ الأحياءِ التي كانتْ في منامِها.
النَّصُّ موضوعُ القراءةِ..
للأديبةِ ( سمر عميران/سوريا)
"رَاجِفَةٌ قَبْلَ أَوانِهَا!"
كُنّا نِياماً..
تَلتَحِفُنا الحِجارةُ..
تَحتَ أَسقُفٍ تَخلَّت عَنّا!
وما زِلنا نيام
لكنَّنا مُتعَبون..
نسمعُ صراخهم وأناتهم
تمزقُ الصمتَ...
استيقظنا متأخرين
على جديلةٍ
عشقتها الأرضُ لتحتضنها
لن تسمحَ لها أن تكبُرَ..
خطفتها...
لترقصَ على إيقاع المطرِ
في عالمٍ خالٍ من البشر
لتصنعَ من الصراخ لحناً
و من جلودهم طبولًا
تعزفُ الرعد...
تُوقِظُ الحياة بصرخةِ الموتِ!
أصلُ الموضوعِ:-
النومُ آيةٌ كونيةٌ سخَّرَها اللهُ تعالـىٰ لراحةِ الأبدانِ، وَ لِلتقوّي علـىٰ الأعمالِ
وَ الطاعاتِ وَ أمُورِ الحياةِ.
الكاتبةُ هُنا.. اِستهلَّتْ نصَّها بمفارقةٍ مؤلمةٍ تَمثَّلتْ في:- الحياةِ.. وَ المَوتِ!
وَ أدخلتنا في كابوسٍ ثقيلٍ..
هَنيئًا لِمَن اِستيقظَ منهُ مُبكِّرًا، وَ يا لِبؤسِ مَنْ حملَ علـىٰ عاتقِهِ كتلةً خَرسانيةً، وَ ثِقلًا لا يُطاقُ.. يُشبِعُهُ أَلمًا جسديًّا، وَ أوجاعَ ذكرياتٍ ما تَنفَكُّ عنهُ لحظةً واحدةً!.
أمَّا مَنْ قضىٰ نحبَهُم.. فَأنَّهم صَدقوا
ما عاهَدوا اللهَ عَليهِ، وَ اللهُ يَتَوَلَّـىٰ الصَّالِحِينَ!
عَوْدٌ عَلَـىٰ بَدْءٍ...
رؤيةُ الكوابيسَ ليستْ بالضرُورةِ تكونُ علامةً لعدمِ القبولِ أو غضبٍ
منَ اللهِ علـىٰ عَبدهِ.. أبدًا!
الكاتبةُ أخذتنا بسَلاسَةِ لُغةِ نَصَّها
إلـىٰ أرضٍ يَبابٍ، خاليةٍ منَ النَّبضِ،
وَ خرابٍ تفوحُ منهُ رائحةُ الموتِ..
تَعرضُ لنا صورًا تراجيديَةً عنيفةً، تُحاكي هَزَّتُها هزَّاتٍ وَ زلازلٍ اِرتداديَّةٍ مُؤجَّلةٍ إلـىٰ وقتٍ لاحقٍ!
وَ لا نَدري كمْ ستكونُ مأساتُنا
وَ نَحنُ نقاتلُ الموتَ وجهًا لِوجهٍ؟
سِيمياءُ لُغَةُ النَّصِّ:-
عَبَّأَتِ الكاتبةُ المتلقِّيَ بصُورٍ سيميائيةٍ
أو منهجٍ سيميائي، منْ خلالِ دراسةِ علاماتٍ و سلوكٍ خاصٍّ باستخدامِ توقيعٍ، في لحظةٍ آنيَّةٍ، حَرجَةٍ جدًا..
وَ نعني بـِـ "السيمياء".. العَلامةَ، أو الرَّمزَ الدالَّ علـىٰ معنًىٰ مقصودٍ لربطِ تواصلٍ ما، سواءٌ أَ كانتْ متصلةٌ بملامحِ الوجهِ أو الهيئةِ أو الأفعالِ أو الأخلاقِ.
وَ لفظُ "سيمياء" ليسَ غريبًا علـىٰ اللُّغةِ العربيةٍ وَ الناطقينَ بها، فَقدْ وَردَ في القرآنِ الكريمِ بمعنىٰ العلامةِ صراحةً في مَواضِعَ كَثيرَةٍ:-
{سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ} (٢٩- الفتح)
{وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ...}(١٤-آل عمران)
وَ العلاماتُ وَ الرُّموزُ الدَّالةُ علـىٰ أصلِ الموضوعِ كثيرةٌ في حياتِنا العمليةِ،
وَ علـىٰ سبيلِ المثالِ لا الحصرِ نَلْحَظُ ذٰلكَ في:-
* علامةِ الطريقِ لتساقطِ الصُّخورِ.
* الدُّخانِ علامةٌ علـىٰ الحَريقِ.
* كلماتِ أو إشاراتِ المرورِ... إلخ!
دعونا الآن نُفككُ النصَّ بحسبِ الصُّورِ السيميائيةِ، عَلَّمَتِ الكاتبةُ أحداثَهُ بشكلٍ يُوحي أنَّها- أي الكاتبة- عَنقاءٌ خَرجَتْ تَوًّا منِ الرَّمادِ، تَحملُ معها ذاكرةً لم يُصِبْها الدَّمارُ بِسوءٍ، وَ لنْ تتأثرَ بما سَتؤولُ إليهٍ الأقدارُ لاحقًا...
١) تَلتَحِفُنا الحِجارةُ../النصُّ
علامةٌ علـىٰ التَّدميرِ الكاملِ.
٢) تَحتَ أَسقُفٍ تَخلَّت عَنّا!../النصُّ
نكرانُ المهمةِ التي أُنشِئتْ منْ
أجلها، وَ خذلانُ المُنْشِئ.
٣) نسمعُ صراخهم و أناتهم../النصُّ
الحياةُ في خطرٍ واقعٍ لا محالةَ!
٤) جديلةٌ عشقتها الأرض../النصُّ
صَبايا بعمرِ الزُّهورِ، " تَجِزُّ " ظفائرَها الأُمُّ/ الأرضُ، بحجةِ العشقِ.. فهلْ هُناك أقسىٰ منْ هٰذهِ الصُّورةِ!
٥) ترقصُ على إيقاع المطر../النصُّ
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنذَرِينَ} (٥٨- النمل)
أينما نجدُ مفردةَ 'مطر' في القرآنِ
الكريمِ سنجدُ أنهُ مطرُ عذابٍ وَ سُوءٍ يسقطُ علـىٰ المُنْذَرينَ الّذينَ قامتْ عليهم الحجَّةُ وَ لم يَرعَووا..
وَ المطرُ ليسَ بالضرورةِ أن يكونَ قطراتِ ماءٍ أو كُراتِ بَرَدٍ تَسَّاقَطُ منَ السماءِ، إنَّما قدْ يكونُ حجارةً منْ سِجِّيل، او تَخرُّ السقوفُ علـىٰ ساكنيها.. أو غيرُ ذلكَ.
الضحايا هُنا ليسَ منَ المُنْذَرينَ،
لٰكِنَّ الكاتبةَ استعمَلتْ صورةَ الرَّقصِ علـىٰ ايقاعِ المطرِ للمبالغةِ في عَظُمِ
وَ هَولِ ما حصلَ للنّاسِ المسالمينَ
وَ هُم نيامٌ!
٦) عالمٌ خالٍ من البشر../النصُّ
هٰذا الخواءُ في شغُورِ المكانِ منَ
البشرِ.. دَلَّلَ أنَّ الأمورَ خرجتْ عن نطاقِ السيطرةِ، وَ أُصبِحَ الجميعُ أمامَ حتفِهم!
٧) صناعةُ لحنٍ من الصراخ،
و طبولٍ من الجلود../النصُّ
صناعةٌ غيرُ معروفةٍ سابقًا، وَ غريبةٌ عنْ ادراكِ المُتلقِّي، وَظَّفَتْها الكاتبةُ كي تزيدَ في الرُّعبِ المرافقِ للحدثِ.. وَ قطعًا الحدثُ يستحقُ ذٰلكَ، وَ الكاتبةُ أجادتْ في تصويرِهِ، أيُّما تصوير!
٨) ايقاظ الحياة بصرخة الموت/النصُّ
أرفَقتْ بحالنا الكاتبةُ وَ بَيَّنتْ أنَّ
تُلكُمُ الطُّبولَ الخرافيةَ، بالتزامنِ مع هديرِ الرَّعدِ.. أيقظتِ الحياةَ المَيِّتَةَ
(وَ ليسَ المَيْتَةَ) علـىٰ رُغمِ أنفِ الموتِ، بعدَ أن لَوتْ ذَراعهُ!
وَ ها هُم يجددونَ العَهدَ بان يَعيشوا
وَ يتكاثروا وَ يعمِّروا أرضَ اللهِ سبحانهُ
وَ تعالـىٰ..
أخـــــــيرًا...
عذرًا لو أنَّ هٰذهِ القراءةَ ابتعدتْ
عن سابقاتها منِ القراءاتِ وَ الدراساتِ
وَ المقالاتِ النقديةِ منْ مختلفِ النّقادِ
وَ الأدباءِ.
فهي جَنحتْ إلـىٰ موضوعِ النصِّ،
وَ تركتِ اللُّغةَ وَ الاسلوبَ وَ فنيةَ الكتابةِ الإبداعيةِ لِمَنْ يَهمُّهُ تنويرَ المتلقِّي
وَ القارئ باللمساتِ البيانيةِ للنصِّ،
وَ كيفيةِ تعاملِ المُبدعةِ في كتابتِها كي تضعَ الجميعَ أزاءَ مأساةٍ لا تتكررُ مرتين -إن شاءَ اللهُ تعالىٰ-في جيلٍ أو جيلين!
سَرَّني جدًا الكتابةَ عن نَصٍّ صغيرٍ،
تَصدَّىٰ لتصويرِ مأساةٍ رهيبةٍ جدًّا،
وَ استغرقَ ذٰلك جُهدًا أرجو أنْ يَحظَىٰ باعجابكُم وَ استحسانكُم لهُ.
وَ أرجو مخلصًا أنْ تنالَ هٰذهِ القراءةُ المتواضعةُ قبولًا طيبًا منَ الاستاذةِ البديعةِ ، المبدعةِ بحقٍّ "سمر عميران" من سوريا.
مع أطيبِ التحياتِ...
. (صاحب ساجت/العراق)
تعليقات
إرسال تعليق