الشاعر و الناقد علي المحمودي
قراءة تأويلية في نص الشاعرة شجرة الدر
باديء ذي بدء.. نحن أمام مقطوعة من البديع صيغ بلغة رصينة سهلة كثيفة الدلالات، وقد جاءت على الوافر التام مقطوف الضرب والعروض، وهو بحر محبب للشعراء في التعبير عن الشعور بموسيقاه وايقاعه الفخم، الذي توافق مع روي ممتع.. هذا من حيث البناء العروضي.
وقد تصرفتُ فيه قليلا من باب الضرورة الشعرية في تسكين أفعال مثل (اضرب) لاستواء الوزن.
ونترك ذلك إلى النص..
فأنت حين تقرأ تلِج إلى نص مثل جدول صافٍ ينساب من علٍ إلى وهاد الروح؛ بدأته بفعل زمنه الحاضر، أي أن الشعور مستمر في زمن الحدوث، مستشرفا المستقبل البسيط؛ فالمواراة إخفاء وستر في خطاب الغائب المحب؛ أو قد يكون القلب وكلاهما مخاطب بهذا؛ واستخدمت حرف من حروف المعاني يفيد الدخول مسندا لجمع تكسير دال على الضلوع؛ اسندته بطبيعة الحال للروح مناط الشعور؛ وأتت بالمفعول وهو ما وقع عليه أثر الفعل (السر ) والسر مفرد أسرار وهو الخبر المكتوم، وقد تضافرت الدلالة اللغوية لكل مفردات شطر المفتتح؛ لإظهار الإخفاء والحرص عليه؛ فهنا نجد إيثار من المحب أن يخفي حبه عيون الناس؛ لكي يحافظ على حبيبته، وهو الذي أضحى قريبا دون حواجز؛ فهو يسترها كستر الخمار ويضرب مشاعرها لكي تصنع سياجا حافظا لحبيبته.. و(الضرب) هنا هو إسدال ستائر الحب لتحميها من كل خطر يحيق بها.. فقد أبدعت الشاعرة في الموازنة بين الصورة الحسية والمعنوية، وكذلك أعجزتك أن يكون غير العجز مكملا للصدر بحرفية عالية؛ فالوصف الدقيق انطلق من البيت الأول إلى الثاني؛ وكما فعلت أولا؛ بدأت البيت الثاني بنفس زمن الفعل؛ للتأكيد على استمرار التجربة من خلال التوازي؛ فالبعد يزيد وينمو والأشواق تزيد لوعة واشتعالا؛ ووسط ذلك الأتون من المشاعر يأتي هو ليكون كالظل في يوم قائظ؛ واسخدمت الفعل (رأى) اللازم بمعنى (نظر) وكأنها نظرته رؤيا عين؛ صورة تقريبية لشيء قد يبدو شعوريا؛ ثم تمعن في ذلك من خلال جعل (الأضلاع) دارها؛ وتواصل صهر النص في وحدة عضوية كلية؛ وكأن المقطوعة هى صورة تخللتها مشاهد متنوعة في إطار واحد؛
وهى في ذلك لا تنسى الصورة الجزئية فنجد الصورة الرائعة..
يراني بينما كري وفري
يضاحكني لكي يستر عواري
فهو الصراع الذاتي رسمته من خلال الحركة الدالة من مفردات لها قوة التصور (كالكر والفر).. اندفاع وتراجع.. مد وجذر؛ ثم تباغت القارئ بواقعية النص في وصف مباشر تقريري من خلال فعل اعتيادي (كالمزاح) لتخرج القارئ من حيز الخيال؛ توطئة للبيت التالي في وصف الحبيب واستخدام فعلا يدل على الدراية..
واعرف انه كالطير قمري
يجوب الليل مقتحما غماري
فقد شبهته بالقمري من الطير؛ وهو طائر مسالم وديع؛ ورغم ذلك أعطته صفات الشجاعة من خلال قوة الحب؛ وكأنه تحول إلى نسر يجوب فضاءها ويقتحم غمارها؛ وتختتم مقطوعتها الشعرية بتكرار الفعل (أعرف)
وأعرف انه قد صار صري
عجيب انه للحبس شاري
فقد أكدت بمؤكدين (أن) و(قد) وإلصاقها بها الضمير للمخاطب الغائب المتواري خلف ضمائر الغياب؛ فهو حاضر في الوجدان؛ ليتحول لصوت تخلل حنايا الروح؛ يتردد صداه في كل حرف.. حضورية طاغية ارتدت رداء الغياب فقد اتكأت على فعل التحول والصيرورة (صار) وكأنه انتقال بالزمن وإتمام الفعل؛ فقد أصبح واقعا عبرت عنه بالفعل بعد زمن الحدوث؛ لفيد الحدوث والوقوع. وتختتم بشطر وكأنه إضراب عما سبقه؛ فيه اندهاش وتعجب انه اختار الحبس الاختياري؛ فقد جعلت حبها كالقيد اختاره الحبيب، وهو اندهاش ناتج عن قراءة لذاتها المترددة في قبول خوض تجربة هى نفسها لم تكن في انتظارها..
النص رائع فعلا يستحق أكثر من تلك القراءة المتواضعة.
..........
يواري في حنايا الروح سري
ويضربني كما اضربْ خماري
يزيد البعد والاشواق حَرِّي
أراه ظلا والاضلاع داري
يراني بينما كري وفَرِّي
يضاحكني لكي يسترْ عواري
واعرف أنه كالطير قُمري
يجوب الليل مقتحما غماري
وأعرف انه قد صار صِرِّي
عجيبٌ انه للحبس شاري
بقلم الشاعرة شجر الدر
...........
تعليقات
إرسال تعليق